يوم الوحدة يوم وثاق الثقة

يوم الوحدة يوم وثاق الثقة

في ذكرى يوم من أيام الوطن كنت في خلوة من أمري أقلب صفحات الذاكرة وفهارس أمهات الكتب وأستعرض ما كتبه أهل الشأن كل في اختصاصه، ولأنني حديث عهد قلت في نفسي لما فيها من حب استطلاع إنني بحاجة إلى مرشد يقوّم ضالتي؛ ولأن المؤرخين اتجهوا إلى تسجيل الوقائع دون التبحر في ماهية الحدث ومسائل الفكر ذات الشجن العبقري، عدت إلى جدي نجد من أجل أن أسأله كيف كان يحتضر؟ وكيف عاش؟ أخذت بيده إلى ظل نخلة اعتاد الجلوس بجوار حجرها، النخلة التي في قامة الرجل؛ وقد أحاط بها من جميع الجهات بكثافة "حيش"، في قامة الأطفال، وعندما نظرت ميمنة وجدت آثار مزارع "الحب" أو كما يقولون "البر الحمر"، وبقايا زرانيق بئر قديم ومنحاة قد أغار عليها السيل وهدم جوانبها، و"محالة" خلع الزمان منها "سن" وانتثر ما بجواره، وهناك غرب كبير مثقوب ومرقوع، وبقايا "الحبال" من الليف... كنت أنظر وينظر معي وتدمع عيناه ويأخذ بطرف الغترة ويمسح آثار الدمع.. ونظرت في الجانب الآخر لأجد أطلال بيوت من الطين قد تهدمت وتكسر خشبها وبقي منه ما نجا معلق في ثقوب السقف!! وقلت لجدي ما هذا؟ 

قال: هذه آثار الحملات المصرية التركية وأشار إلى مقابر جماعية اتفقوا على تسميتها في ضرما وفي الدرعية عاصمة نجد آنذاك بمقابر الفضية.. وحدثني عن معاناة أهل نجد من أثر هذه الحملات؛ ولكن الإيمان بالله وحده أكثر قوة وصلابة ومتانة.. قلت ومن المقصود بذلك؟ قال: الإسلام ومن يدعو له ويتمسك بعراه التي لا انفصام لها، قلت وبعده فقال: بقيت وحيدا في يدي اليمني الكتاب وأحمل على عاتقي السنة المحمدية السمحة.. وأسأل الله أن تزول الغمة وذات صباح جاء الإمام تركي وصافحني ولم أعرفه، ولكنه عرفني وهو في الطريق إلى ضرما وكان متأبطاً معه شيئا ظننت أنه زهاب؛ ولكن لم يكن.. انصرف مسرعا حيث الخطوة الأولى. وتجاوزها بنجاح في ضرما وانطلق برعاية الله إلى عرقه ومن ثم إلى الدرعية ونصره الله، ولأن هاجس الإمام تركي يرحمه الله هاجس العقيدة الإسلامية قال في قصيدته عام ۱233هـ الموجهة لأبن عمه مشاري بمصر: 

حصنت نجدٍ عقب ماهي تطرا

مصيونة من حر لفح المذاري


والشـرع فيها قد مشا واستمرا

ويقرا بنا درس الضحا كل قاري


وزال الهوى والغي عنها وفرا

يقضـي بها القاضي بليا مصاري

 

وعندما كان في جولته هم بالعودة، ولكن هناك من قال له غير ذلك حاول الكثير إحباط هممه؛ ولكنه واثق بنصر الله عز وجل، ويثق في الرجال من حوله عندما اتجه إلى ضرما ليقفوا معه وقفة رجل واحد؛ وقال يرد في قصيدته على من حاول أن يثنيه عن رأيه:

ما همني من قال لي لا تزرا

نجدٍ غدت بابٍ بليا سواري


يوم أن كل من خويه تبرا

حطيت الأجرب لي خويٍ مباري


نعم الخوي اللي سطا ثم جرا

وأودع مناعير النشاما حباري


نزلتها غصبٍ بخيرٍ وشرا

وجمعت شملٍ بالقرايا وقاري

 

ولكن أعداء الإسلام يتربصون بقومي ويلاحقون دعاة الإسلام والسلام وبعد محاولات عديدة دحرت كيد الكائدين؛ قامت نجد على عز الإسلام في زمان الإمام فيصل بن تركي وقال والحديث عن نجد: 

حنا حمينا نجد عن كل فساق

من حمر مصـرٍ والنفوس المناكير


أول نراسلهم بتسجيل الأوراق

واليوم بطراف الرماح السماهير


أقول ذا قولي وبالرب وثّاق

أمدح رجالٍ من تميمٍ مناعير


حاموا على الملة وقاموا عل ساق

دون المحرم والغروس المظاليل

 

إلى آخر القصيدة، ودارة الأيام واختلف الإخوة وتهيأت الفرصة للمتربصين وكانت نهاية الدور الثاني للحكم السعودي، وانتفض أهل نجد حباً في آل سعود وأكثروا في اللوم ورددوا القصائد الكثيرة مثل قصيدة شاعر سدير الكبير إبراهيم بن جعيثن عندما قال: 

شارو على الربع وعاذل ومعذول

وجو ينصحون وصار مثل الرطينه


قالوا تعدل قلت ما ناب مهبول

بس اقصـروا ياهل العقول الرزينة


الجسم في الأرياف والقلب متلول

وما ذقت أنا هجس أنكم ذايقينه


طبيت نجد وصرت بالهم مشلول

الله لمن حمله ثقيلٍ يعينه


يا نجد حديتني أنشدك وأقول

من اللي بربك بالدنيا تبينه


يا نجد يا أم الهول ما درتي الحول

ما أسرعك لي ثوب الجفا تلبسينه


جيتك وانا عاقل وبك صرت بهلول

خوفٍ على ما في يدي تاخذينه


يومٍ على الثنوه ويومٍ على النول

في نجد شاب الراس قبل حينه


وتقول ذا طبعي ولا هوب مجهول

أنشد ترا شيابكم خابرينه

 

وأطرق جدي نجد ونظر إلى النخلة وقال: سيأتي الفرج إن شاء الله.. وفتش في جيبه وأخرج وثيقة قد كتبها للإمام عبد الرحمن وأبنائه مفادها أنني واثق لأن الثقة بيت الإيمان وأشار إلى الرياض بصمت يشق عنان السماء، وقال: هؤلاء أهل الرياض واثقون وينتظرونا قلت من؟ قال: وجاء عبد العزيز الذي فات على كل متربص بالإسلام في نجد أنه شد رحاله للرياض وكتب الله له النصر وأعاد لي الوثيقة الموقعة من محمد بن سعود ومصدقة من الشيخ محمد بن عبد الوهاب التي ورثها الإمام تركي والإمام فيصل بعدما وقع عليها عبد العزيز قدس الله روحه وأعاد الأمن والسلام وجدد الحياة وقال الشاعر عبدالرحمن الحويطي من أهل المزاحمية:

دارٍ ياللي سعدھا تو ما جاها

طير حوران شاقتني مضاريبه


نبح عجلان فيها ما تعداها

ماحلا عند باب القصـر تسحيبه


يوم حنت وونت سمع شكواها

ووصلها قبل تاصلها مناديبه

 

جاء الحباري عقابٍ نثر دماها

في الثنادي وفي الهامة مضاريبه

 

وعقب ماهي عجوزٍ جدد اصباها

وزينها لربٍ قامت تماري به

 

إلى آخر القصيدة، قلت وبيت القصيدة يا جدي وقال: الثقة الدرس الأول الذي توارثوه؛ لأن الثقة بيت الإيمان الأول؛ لأن عبدالعزيز لو لم يكن واثقاً بأهل الرياض لما غزا.. وكنت أردد أن الثقة هي عنوان الوثيقة الأولى. وعبدالعزيز يمنح الثقة أهل بيته وأهل وطنه بدرجة كبيرة ونجح بها؛ وقاد هذا الوطن ووحده من الشرق إلى الغرب ومن الجنوب إلى الشمال واستطاع أن يؤسس الدعائم التي نحن نجني ثمارها ونتقدم الركب الحضاري بثقة وعندما نثق بأنفسنا ونثق بمن حولنا من أهلنا سيكون النجاح دائماً حليفنا، نعم يجب أن نثق في كل ما هو حولنا لأن الثقة هي الحزام الواقي والدرع الباقي ما بقا الكون وقامت على أركانه الحياة واستمر التعايش وها هو جدي نجد يقول وثيقة الثقة تمثل العمود الفقري للواقع.. واليوم الوطني نابع من ثقة الملك عبدالعزيز في التراحم والتواصل وثقة الشعب بقيادة استهلها عبدالعزيز وأوصى عليها سعود وفيصل وخالد وفهد وعبدالله وسلطان وكل أبنائه بارك الله للوطن بهم وبارك لهم في وطنهم وأهمية هذا اليوم تكمن ذكر ما كنا عليه بالأمس وما نحن فيه اليوم.. من أمن وأمان ورخاء ورفاهية وصوت واحد على قلب واحد.. 

يوم الوطن يوم الثقة والمواثيق

يومٍ توحد فيه شعب الجزيرة


ما فيه لا فرقه ولا فيه تفريق

فالمملكة جار المواطن خشيره


حبه مثل حب الوحش للشواهيق

عبدالعزيز ووحده قبل غيره

 

مجلة اليمامة، العدد 1975، 10/رمضان/1428هـ